‘الزمن الرقمي… يفضح النفاق‘ - بقلم: بشار مرشد
مقدمة: المسرح الرقمي للأقنعة لم يعد النفاق يحتاج إلى مهارة في التمثيل أو براعة في تبديل الوجوه، فقد وفّر له الزمن الرقمي شاشة وفلترًا وصندوق تعليقات. في الماضي،
بشار مرشد - صورة شخصية
كان المنافق يتعب قليلًا ليبدو صالحًا أمام الناس، يختار كلماته بعناية، ويتظاهر بالاتزان. أما اليوم، فيكفيه "تغريدة" ليُعلن مبدأه، و"منشور" ليُلغي تصريحاته بعد ساعة، ثم "اعتذار" ليعود محبوبًا كأن شيئًا لم يكن.
وقد أصبح الإعلام الرقمي المرئي والمسموع والمكتوب، بما فيه السوشال ميديا، السوق الأكبر لتجارة الأقنعة. يبيعون فيها المواقف كما تُباع الصور المعدّلة: ضوء ناعم، زاوية مناسبة، وإخفاء للعيوب بخاصية الحذف. لكن المفارقة أن هذا الفضاء، رغم كل ما فيه من تزوير، لا ينسى شيئًا؛ فذاكرته حديدية، وأرشيفه لا يرحم. كل تلوّنٍ مسجّل، وكل تناقض محفوظ، وكل "أنا" قديمة تنتظر لحظة فضيحتها القادمة.
النفاق الجماعي:
في هذا العالم الرقمي، لم يعد النفاق حكرًا على الأفراد؛ بل أصبح رياضة جماعية. الجماعات، والصفحات، وحتى الحسابات الوهمية، تتقافز على موجة المواقف، تتبدل مع كل هاشتاغ، وتتناوب على دعم القضايا أو مهاجمتها بحسب "التيار السائد". لم تعد هناك مبادئ ثابتة، بل "مبادئ حسب المزاج"، وحين تنقلب الريح، ينقلبون معها بابتسامة مصطنعة وصورة ملف شخصي جديدة.
محترفو النفاق:
أما في طبقة النفاق الاحترافي، فالأمر صار عرضًا فنيًا متقنًا: كالسياسيين السابقين والوزراء الذين لم يعد لهم صوت إلا حين يلتقطهم ميكروفون، والإعلاميين المتنقلين من محطة لأخرى وكأنهم يقفزون بين محطات وقود، والفنانين والخبراء والمحللين الجدد الذين يحدّدون مواقفهم بحسب من يدفع أكثر أو حسب نغمة الترند السائدة. وحتى صانعو المحتوى على يوتيوب وتيك توك، كلهم يرقصون على إيقاع الإعجاب والتصفيق الافتراضي، ويقدّمون عرضًا شبه مسرحي من الإيماءات المبالغ فيها والتصريحات المفتعلة، كما لو أننا في مسرح فضائي وهمي، كل شخص يصفق لنفسه، وكل متابع يضحك ويهتف بلا وعي.
البهرجة والأتباع والمبررون:
والمضحك حقًا أن هناك طبقة إضافية من المتابعين، أولئك الذين يبررون كل تصرف وانتهازية، إذا صح التعبير، كأنهم أعضاء في رابطة سيكولوجية سرية تربطهم بالمنافقين. يبدأون التبرير الانتهازي السخيف: ربما فعلها عن قصد، ربما لم يفهم، ربما الظروف أجبرته… وربما… وربما… وهكذا تصبح كل مفارقة، وكل تناقض، مبرّرًا كافيًا لاستمرار النفاق الرقمي. هؤلاء الأتباع يضيفون طبقة جديدة من الهزلية إلى المسرحية، يصطفون خلف الأقنعة الرقمية كما لو أنهم حراس لشبكة من الأوهام، بينما الحقيقة واضحة لكل من يرفع رأسه قليلًا عن الإعجاب الافتراضي.
تناقضات وفضائح لا تُمحى:
المفارقة الكبرى أن الزمن الرقمي محفوظ في السيرفرات بلا رحمة. هؤلاء الانتهازيون يظنون أن لديهم حرية الإبداء والتصريح، لكنهم ينسون شيئًا أساسيًا: لا خيار لهم في التعديل النهائي أو المسح الكامل. إذا بحثت عن أي تصريح لهم، ستكتشف تناقضات مذهلة: مرة يقولون إن الصورة حمراء، ثم في مكان آخر يصرّون أنها زرقاء، هنا بيضاء، وهناك سوداء. يتحول وجههم الرقمي إلى لوحة ألوان متبدلة، كلٌّ حسب المزاج أو المصلحة، ويصبح التناقض فنًا بحد ذاته، حيث كل متابعة ذكية ترى الحقيقة المخبأة خلف أقنعة المسرح الرقمي.
الخاتمة: المرآة الرقمية لا تكذب
وفي النهاية، يكشف الزمن الرقمي كل الأقنعة، ويعرّي كل الانتهازيين دون رحمة. كل تغريدة، كل منشور، كل فيديو، وكل تعليق محفوظ، مثل شريط تسجيل لا ينام، يسجّل كل تناقض وكل تحول، وكل تصفيق افتراضي مبتذل. السياسيون الذين يتلونون ويترنحون حسب الريح، والإعلاميون الذين يقفزون من محطة لأخرى، والفنانون والخبراء والمحللين وحتى صانعو المحتوى الرقمي الذين يبيعون مواقفهم حسب الترند، كلهم يظهرون كلوحات ألوان متغيرة، تُعرض على شاشة غير مدركين انها لا تكذب.
المفارقة الكبرى أن الجمهور، المشارك في هذه المسرحية الافتراضية، يصفق ويضحك وكأنه يشاهد عرضًا حيًا، بينما الحقيقة واضحة: كل انطباع مزيف، كل نفاق، وكل محاولة للتمويه، محفوظة للأبد… فالزمن الرقمي لا يرحم أحدًا.
من هنا وهناك
-
نتنياهو واستراتيجية ‘بناء الفشل‘ - بقلم: المحامي علي حيدر
-
‘توني بلير ... وقصتنا مع هذا الرجل‘ - بقلم : تيسير خالد
-
مقال: العلاقة بين بيان القمّة العربيّة الإسلاميّة وقرارات القيادة الإسرائيليّة - بقلم : المحامي زكي كمال
-
‘ جدل حول الاعتراف بدولة فلسطين ‘ - بقلم : أسامة خليفة
-
فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب ‘كأن تكون فلسطينيّا‘ - بقلم: صباح بشير
-
‘أبناؤنا الموهوبين بين التحدي والدعم: كيف نرافقهم نحو النجاح والسعادة ؟‘ - بقلم : رائد برهوم
-
‘ الموناليزا في باب المعظم ‘ -
-
‘ الفنون .. جسر الإنسانية الحي ‘ - بقلم: الفنان سليم السعدي
-
‘ الاعتراف الدولي بفلسطين والرد الاسرائيلي ‘ - بقلم : د . حسين الديك
-
‘غياب القائمة المشتركة بين الأحزاب العربية: قراءة في الواقع المجتمعي‘ - بقلم: منير قبطي
أرسل خبرا