بلدان
فئات

15.12.2025

°
11:30
مقتل شاب في عرابة
11:18
تلفزيون: أردوغان سيحضر قمة شرم الشيخ للسلام
10:27
إجراءات استثنائية في مطار بن غوريون غدا الاثنين تزامنًا مع زيارة ترامب
09:49
مصدر مقرّب يكشف: بشار الأسد في موسكو يُدمن ألعاب الفيديو وزوجته بحالة حرجة
08:52
النفط عند أدنى مستوى في 5 شهور بعد تهديد ترامب بفرض رسوم جديدة على الصين
07:42
مصادر لبنانية: شهيد بغارة اسرائيلية على جنوب لبنان - الجيش الاسرائيلي: قضينا على أحد عناصر حزب الله
07:42
الشرطة تستخدم الغاز المسيل للدموع وسط احتجاجات خلال مباراة النرويج وإسرائيل
07:41
حالة الطقس: انخفاض طفيف وفرصة مهيأة لهطول أمطار خفيفة متفرقة
07:31
القيادي في حماس أسامة حمدان: إطلاق سراح الرهائن سيبدأ صباح الاثنين
07:30
السفارة القطرية: مصرع 3 دبلوماسيين في حادث سيارة قرب شرم الشيخ في مصر
23:50
دقيقة حداد على روح اللاعب القدير عنان عبد القادر في مباراة هبوعيل الطيبة وفريق كفر قرع
23:47
مصر تستضيف قمة يحضرها ترامب في شرم الشيخ بشأن اتفاق إنهاء حرب غزة
23:11
اتحاد ابناء باقة يسجل فوزا بيتيا على ابناء الكبابير
22:40
الجيش الاسرائيلي: اعتقال مشتبهيْن حاولا تنفيذ عملية تهريب في منطقة الحدود مع مصر
22:27
عمليات انعاش لشاب اثر تعرضه لاطلاق نار في نوف هجليل
21:17
فيضانات ناجمة عن أمطار غزيرة تجتاح في شرق المكسيك
20:41
إطلاق المبادرة المجتمعية القُطرية ‘إحنا، مش أنا‘ في عكا
20:31
التعليم العالي الفلسطيني وصندوق الأمم المتحدة للسكان يوقعان اتفاقية لتنفيذ مشروع تعزيز الصحة العامة وصحة الأسرة
19:55
بسبب زيارة ترامب: إلغاء رحلات وتغييرات في مواعيد الإقلاع في مطار بن غوريون يوم الاثنين
19:55
الشرطة: احباط عدة محاولات لسرقة مركبات في منطقة القدس واعتقال مشتبهين
أسعار العملات
دينار اردني 4.59
جنيه مصري 0.07
ج. استرليني 4.33
فرنك سويسري 4.04
كيتر سويدي 0.34
يورو 3.77
ليرة تركية 0.11
ريال سعودي 0.98
كيتر نرويجي 0.32
كيتر دنماركي 0.5
دولار كندي 2.32
10 ليرات لبنانية 0
100 ين ياباني 2.13
دولار امريكي 3.25
درهم اماراتي / شيكل 1
ملاحظة: سعر العملة بالشيقل -
اخر تحديث 2025-10-12
اسعار العملات - البنك التجاري الفلسطيني
دولار أمريكي / شيكل 3.31
دينار أردني / شيكل 4.66
دولار أمريكي / دينار أردني 0.71
يورو / شيكل 3.83
دولار أمريكي / يورو 1.1
جنيه إسترليني / دولار أمريكي 1.31
فرنك سويسري / شيكل 4.11
دولار أمريكي / فرنك سويسري 0.81
اخر تحديث 2025-10-08
زوايا الموقع
أبراج
أخبار محلية
بانيت توعية
اقتصاد
سيارات
تكنولوجيا
قناة هلا
فن
كوكتيل
شوبينج
وفيات
مفقودات
كوكتيل
مقالات
حالة الطقس

قصة بعنوان ‘جرح غائر‘ بقلم: الكاتبة أسماء الياس من البعنة

موقع بانيت وقناة هلا
30-09-2025 15:05:17 اخر تحديث: 01-10-2025 07:59:00

أوجه كلامي لكل متخاذل ولكل من وقف جانبًا يسأل نفسه: هل أتدخل أو أبقى جانبًا مكتوفة الايدي؟ وهل هذا الشيء يخدم مصلحتي إذا قمت بالاعتراض عليه؟

الكاتبة أسماء الياس - صورة شخصية

لم يكن غضبي حالة وقتية وسرعان ما يزول. بل كان هناك شيءٌ في داخلي يغلي مما جعل غضبي يتزايد حتى أني قررت ان اذهب وأكون من المبادرات اللواتي يساعدن الأشخاص الذين وقعوا تحت نير الاحتلال.

ولأني من النساء اللواتي يعملن من أجل المصلحة العامة. قررت أن أجند الكثير من النساء حتى نعمل سويةً من أجل إعادة الحقوق لأصحابها.

لم يكن من السهل أن تجند فريقًا في فترة قصيرة. لكن عندما تكون لديكَ الرغبة الكامنة بداخلك، بأن لديكَ شيئًا تريد أن يكون له تأثير تجاه مجتمعك، تعمل بكل طاقاتك من اجل انجاحه.

لهذا وجدت الكثير من الدعم: رفيقاتي بالعمل. صديقاتي اللواتي تربط بيني وبينهن علاقة صداقة وقرابة.

 شرحت لهن السبب من وراء اجتماعنا. أصغين لي باهتمام منقطع النظير.

كل واحدة منهن أصبحت تشعر بأن ثقل المسؤولية على أكتافها.

 وأن هذه المرة مختلفة عن سابقاتها.

تلك المرات التي كنا نلتقي بها. رحلة بين الروابي والسهول، نذهب نتجول بالبقاع، نجلس بالساعات على شاطئ البحر نتمتع بالشمس الدافئة وزرقة البحر التي تجعل نظرك يسرح بعيدًا، ترمي كل همومك في هذا البحر الواسع، وتعود كل واحدة منهن وقد خفّ ثقل ما تحمله.

فما أجمل أن نكون بحال نشعر به بأننا أشخاص نعيش لا هم يثقل أكتافنا، ولا دمعة تتدحرج من مآقينا.

لكن هذه المرة، لم يكن الأمر يتعلق برحلة على شاطئ أو تخفيف هموم. هذه المرة كانت أثقل من أن يحملها كتف واحد، وأعمق من أن ينسيها النظر إلى زرقة البحر. هذه المرة كان الجرح غائراً، يمزقنا جميعاً وإن لم نكن الضحايا المباشرين.

ما دفعني لأكون من المبادرات، ليس مجرد بيانات أو إحصائيات. بل صورة محفورة في ذاكرتي: وجه الطفلة "سلمى" ابنة السنوات الخمس، تجلس أمام ركام منزلها، يداها الصغيرتان تحتضنان دمية بلا رأس. سلمى هذه فقدت والدها وأمها معاً، لم يبقَ لها إلا جرحها الصامت وذاك الركام. وكم مثل سلمى ينتظرنا؟ أطفال فقدوا الأمان، والأخوة، ودفء العائلة... منهم من يتيتم بغمضة عين، ومنهم من فقد السند والأخ. هذه الكارثة الإنسانية هي ما يغلي في صدري.

لهذا، حين نظرت إلى رفيقاتي، لم أشرح لهن سبباً عاماً، بل شاركتهن في هذا الألم بالتفصيل، شعرت بأن قلبي ينبض مع كل كلمة كنت أتفوه بها. نحن لن نذهب لقتال مسلح، لكننا سنذهب لنخيط أول خيط في محاولة تضميد هذه الجروح المفتوحة. سنعمل لإعادة بناء ما هو أهم من الإسمنت والطوب: سنعيد بناء الروح، ونزرع بصيص أمل في عيون هؤلاء الصغار.

لقد قررنا أن تكون مهمتنا الأولى هي الوصول إلى ملجأ الأمل الجديد" الذي يضم عشرات الأطفال الذين تيتّموا حديثاً. كان هذا الملجأ هو النقطة التي سيبدأ منها عملنا.

كانت الرحلة إلى ملجأ "الأمل الجديد" هي الاختبار الأول لقوة إرادتنا. لم يكن الطريق مجرد مسافة، بل كان معرضاً مرئياً للهزيمة. البيوت المهدمة تقف كأضرحة صامتة، والدمار يلف كل زاوية. ورأيتُ الخيام العشوائية التي أقامها الناس، محاولات بائسة لإعادة خلق ما يشبه الحياة فوق الأنقاض. كنا نسير وسط هذا المشهد، وقلوبنا تنقبض مع كل خطوة.

وصلنا إلى الملجأ، لم يكن مبنى حديثاً، بل كان شاهداً متعباً على أيام أفضل. كانت الأجواء مشحونة بالخوف الذي لم يستقر بعد. الأطفال هناك لم تكن العابهم بصخب بل كانوا في حالة أقرب إلى الصمت المُتعَب. عيونهم كانت تتبعنا بحذر، كأنهم ما زالوا ينتظرون المصيبة التالية.

شعرتُ للحظة أن كل الكلام الحماسي الذي قلته لرفيقاتي قبل أيام قد تبخر. هذا الواقع كان أكبر وأقسى من أي اجتماع أو تخطيط. نظرت إلى رفيقاتي:

جانيت كانت تمسح دمعة خفية لم تستطع منعها، سماهر كانت تقبض على حقيبتها بقوة، وجهها شاحب.

تنفسّت بعمق، هذا ليس وقت الانهيار. هؤلاء الأطفال لا يحتاجون إلى مزيد من البكاء، بل إلى يد ثابتة تمسك بهم. نظرت إليهن وقلت بهمس، لكن بثبات نحن هنا لنخيط. ولن نخيط بالدموع.

توجهت نحو مجموعة من الفتيات كنّ جالسات في زاوية، صامتات. شعرت أن هذه هي اللحظة الحاسمة. يجب أن نكسر جدار الصمت والخوف هذا.

لم يكن الصمت في القاعة صمتاً عادياً، بل كان صريراً يمزق القلب، صمت مثقل بذكريات القصف والفرار. وبينما كانت رفيقاتي يبدأن بترتيب الأغطية والوجبات التي أحضرناها، وقع نظري على طفل يجلس منفرداً بعيداً عن الجميع، يحدق في نقطة على الحائط. كان اسمه خالد، كما أخبرتني إحدى المشرفات. عمره لا يتجاوز السبع سنوات، لكن وجهه يحمل تجاعيد زمن لم يعشه.

اقتربت منه بهدوء، جلست القرفصاء على الأرض، وحاولت أن أبتسم ابتسامة دافئة. سألته: ماذا تفعل يا خالد؟ هل تضيء لنا هذا المكان بابتسامتك؟

لم يُجب. ظل يحدق في الحائط. كان يمسك بيديه بشاحنة لعبة صغيرة، لكنه لم يكن يلعب بها. كانت أصابعه البيضاء ملفوفة حولها بعنف، كأنه يخشى أن تُؤخذ منه.

هل تحب الشاحنات؟ سألت بهدوء. من المؤكد أنك بطل القيادة.

استغرقت محاولاتي حوالي دقيقتين كاملتين، لم يقطعها إلا صوت مريم وهي توزع أقلام التلوين والورق على الفتيات الجالسات. فشلت في جعله ينظر إليّ. وهنا أدركت أن الجرح الغائر لا يعالجه الكلام اللطيف وحده، بل يحتاج إلى مدخل يكسر الحاجز، مدخل يخصهم.

تذكرتُ أننا أحضرنا معنا آلة موسيقية صغيرة (أكورديون).

حسنًا يا خالد، أنا سأذهب. لكن قبل أن أذهب، أريدك أن تعدّ معي كم شاحنة يمكنني رسمها في دقيقة واحدة. ما رأيك؟

لم أنتظر إجابته. نهضت متجهة إلى وسط القاعة. جذبت انتباه جميع رفيقاتي، وأشرت لهن أن يجعلن الأطفال يجلسون في نصف دائرة. أمسكتُ بالآلة، وبدأتُ أعزف لحناً شعبياً قديماً، لحناً كانت الأمهات يغنينه لأطفالهن قبل النوم.

في البداية، ظل الأطفال صامتين، لكن شيئاً ما بدأ يتحرك. لم يكن اللحن سعيداً تماماً، بل كان يلامس الحنين. شيئاً فشيئاً، بدأت بعض الأجساد الصغيرة تهتز بلطف. ولأول مرة منذ وصلنا، رأيت حركة غير حركة الخوف.

ولكن الأكثر أهمية، كان خالد. نظرت إليه على الطرف، فرأيته قد حول وجهه ببطء، وعيناه لا تزالان حذرتين، لكنهما الآن تراقباننا بدلاً من الحائط. لقد نجحنا في جذب نظره.

هل تريد مني أن أعزف لك أغنيتك المفضلة؟ سألتُ بصوت عالٍ، موجّهةً كلامي إلى القاعة كلها، لكن عينيَّ لم تفارقا خالد.

لم يكن خالد قد ابتسم، لكن مجرد تحويل نظره عن الحائط كان انتصاراً صغيراً. استمريتُ بالعزف، لكنني رفعت رأسي أنظر إلى رفيقاتي. فهمت سماهر الإشارة فوراً. هي الأفضل في التعامل مع الصغار. اقتربت من الأطفال وبدأت توزع عليهم أوراقاً بيضاء وأقلام تلوين، مشجعة إياهم على رسم أي شيء يخطر ببالهم أثناء العزف.

لاحظتُ أن فتاة صغيرة ذات ضفائر داكنة، تُدعى حنين، كانت الأكثر استجابة. لم تلتقط قلم التلوين لتخربش فحسب، بل بدأت ترسم بإتقان لافت مقارنة بسنها. كانت ترسم بيتاً. لكنه لم يكن بيتاً سليماً، بل بيتاً ينبعث منه دخان كثيف، وله حديقة بلا ألوان. كانت حنين تنقل الواقع المرير إلى الورق مباشرة، لكن بفرشاة فنان.

في هذه الأثناء، ظل خالد جالساً، يراقب حنين من طرف عينه، وما زال قابضاً على شاحنته. لكن عندما أوقفتُ العزف، كان أول صوت صدر منه صوتاً غير متوقع.

الشاحنة... قال بصوت خافت، يكاد يكون همساً.

ما بها الشاحنة يا بطل؟ سألتُ بهدوء.

لا تستطيع المرور من هنا. أشار بإصبعه الصغير إلى الطريق المدمر الذي وصفناه مسبقاً، وكأن الدمار المحيط بالملجأ قد انتقل إلى خياله. كان هذا أول اعتراف منه بالواقع القاسي.

هنا تدخّلت حنين. رفعت رسمتها وقالت بلهجة أقرب إلى اليأس: لا تستطيع أن تبنيه مرة أخرى. البيت ذهب.

شعرتُ بالقلوب تنقبض في القاعة. لقد فتحت حنين الجرح، وخالد أظهر أولى علامات التفاعل.

نظرت إلى خالد ثم إلى حنين، ثم إلى ورقة بيضاء كانت ملقاة أمامي.

بالتأكيد يمكننا بناؤه. قلتُ بثقة مصطنعة، ورفعت القلم بيدي لكننا لن نبنيه بالشاحنات أو بالإسمنت الآن. سنبنيه هنا. 

 وأشرت إلى الورقة.

يا حنين، لو أننا أعدنا بناء هذا البيت... أي لون ستختارين له؟ لون يجعل الحياة تعود إليه؟

نظرت حنين بتردد، ثم أشارت إلى اللون الأصفر.

ويا خالد، بما أن شاحنتك لا تستطيع المرور في هذا الطريق المدمَّر، ماذا لو رسمنا طريقاً آخر؟ طريقاً واسعاً وسهلاً، يأخذنا إلى بيت حنين الجديد؟ هل يمكنك أن ترسم لي هذا الطريق على ورقة بيضاء؟

تردد خالد لحظة. نظر إلى الشاحنة في يده، ثم إلى الورقة البيضاء التي وضعتها أمامه. وفي تلك اللحظة، حدث شيء صغير لكنه عميق. أرخى قبضته عن الشاحنة، ووضعها برفق على الأرض، ثم مد يده بخجل نحو قلم التلوين البني. كانت تلك أول خطوة نحو التعافي: ترك الماضي ليشارك في رسم المستقبل.

كانت لحظة وضع خالد لقلمه على الورقة هي إعلان غير منطوق عن بداية تحرره. لم يرسم طريقاً مستقيماً؛ بل كان خطاً متعرجاً، متقطعاً، مليئاً بالبقع البنية والترابية، تماماً كالطريق المدمّر الذي رآه. 

كانت رفيقتاي، مريم وسماهر، تتنقلان بين الأطفال، تشجعانهم على إضافة لون إلى هذا الطريق، أو ورقة شجر، أو سماء.

أما حنين، فقد تحول انشغالها عن بيتها المهدم إلى مشروع مشترك مع خالد. بدأت ترسم بيتاً جديداً في نهاية طريق خالد المتعرج، بيت بأسقف زهرية وجدران صفراء زاهية، الألوان التي اختارتها للعودة إلى الحياة. كانت تطلب منه: اجعل الطريق أوسع قليلاً حتى تستطيع شاحنتك أن تمر حاملة السعادة إلى البيت الجديد.

خالد، الذي كان صامتاً ومنعزلاً، وجد في حنين شريكة مشروع وهدفاً صغيراً، فبدأ يتجاوب معها بكلمات قليلة لكنها ذات معنى. لقد أصبحا فريقاً صغيراً: خالد يرسم الطريق المتحدي، وحنين ترسم الوجهة المشرقة.

لم تقتصر الإيجابية على ثنائي خالد وحنين. فبمجرد رؤية الطفلين الأكثر انعزالاً بدآ يتفاعلان، بدأ جدار الصمت الجماعي يتشقق. 

الأطفال الآخرون، الذين كانوا خائفين في البداية، وجدوا أنفسهم يشاركون بطرق مختلفة:

طفل بدأ يضيف على رسم حنين وخالد نهرًا أزرق، قائلاً إن الطريق الطويل يحتاج إلى ماء للارتواء.

بدأت بعض الفتيات يرسمن وجوهاً ضاحكة بابتسامات كبيرة ومبالغ فيها، كأنها أمنيات معلقة بالهواء.

حتى الصغار جداً، الذين لم يستطيعوا الرسم بوضوح، بدأت أصواتهم ترتفع بطلب ألوان محددة: أريد أحمر أريد لون أبي.

لقد أدركنا أن الرسم لم يكن مجرد نشاط، بل لغة، لغة يستطيع الأطفال من خلالها أن يصرخوا بأوجاعهم وأحلامهم في آن واحد، دون أن يتكلموا. بدأنا نشعر بدفء غريب يسري في المكان، شيء لم يكن موجوداً عند وصولنا. تحول غضبنا الداخلي إلى طاقة ترميم هادئة. في نهاية اليوم الأول، لم نكن قد أعدنا لهم عائلاتهم، لكننا فتحنا نافذة صغيرة في جدار اليأس، وسمحنا لبعض الضوء والأمل أن يتسلل إلى أرواحهم.

بينما كنا ننعم بذلك الدفء المؤقت الذي ولّده تفاعل خالد وحنين، وبدأت الابتسامات الخجولة ترسم ملامح جديدة على وجوه الأطفال، كانت الحقيقة القاسية خارج أسوار ملجأ الأمل الجديد تستعد لتسحبنا جميعاً من لحظة التضميد الهادئة.

كانت رفيقتي مريم هي أول من لاحظت التغيير. في اليوم الثالث لعملنا، بينما كانت تتفاوض مع بعض السكان على تأمين إمدادات طعام إضافية، عادت بوجه شاحب.

الأمر ليس آمناً يا صديقتي. الجنود. قالتها بصوت مرتعش.

لقد كان من المفترض أن ينسحبوا بالكامل حسب اتفاقية السلام الهشّة التي وُقّعت مؤخراً، لكنهم لم يفعلوا. فمجموعة منهم بقيت في نقطة تفتيش قديمة، وبدأوا بفرض وجودهم وتدابيرهم التعسفية على السكان الذين حاولوا العودة إلى بيوتهم أو الذين كانوا في محيط الملجأ.

إنهم يتنقلون الآن بشكل مكثف حول المنطقة. يعترضون المارة ويسألون عن هويتنا وهدفنا. بالأمس، أوقفوا شاحنة صغيرة كانت تحمل أغطية للملجأ لأكثر من ثلاث ساعات بحجة التفتيش. أكملت مريم بصوتها الذي يحمل الغضب والخوف معاً.

هذا يعني أن التحدي لم يعد فقط كيف نساعد الأطفال، بل كيف نحمي الأطفال وفريقنا من أن نصبح هدفاً. عملنا الهادئ في إعادة بناء الأرواح بات الآن مهدداً بالتعطيل أو الأسوأ، بالخطر المباشر.

في تلك الليلة، لم يكن همنا الحديث عن رسومات خالد وحنين، بل عن خطة الطوارئ. هل نستمر في العمل رغم الخطر؟ وكيف يمكن أن نؤمن مسار الإمدادات والأشخاص؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن أن نمنع هذا التهديد من إعادة الأطفال إلى جدار الصمت والخوف الذي بدأنا للتو في كسره؟

نظرت إلى وجوه رفيقاتي. كان الخوف واضحاً، لكنني رأيت أيضاً لمعة العناد نفسها التي رأيتها يوم التجنيد الأول.

اتفقنا في تلك الليلة على أن مواجهة هذا التهديد لن تكون بالقوة، بل بالكشف والتنظيم. لم نكن بصدد التراجع، خاصة بعد أن بدأنا نرى بصيص الأمل في عيون الأطفال. لكن الاستمرار يتطلب حماية.

أولاً، الضغط الإعلامي: قررتُ أن أتواصل سراً مع نورا، وهي صحفية مستقلة صديقة لي تعمل على تغطية الشؤون الإنسانية. كان الأمر بالغ الحساسية؛ فنقل الأخبار عن خرق اتفاقية سلام هشة قد يضع نورا وفريقنا تحت خطر الملاحقة. لكنني أرسلت لها رسالة مشفرة ومقتضبة: الجرح الغائر يتسع. الأطفال بحاجة إلى جدار صوتي. الجنود لم ينسحبوا. لم يمر وقت طويل حتى جاء ردها، أكدت استعدادها للمخاطرة، مشترطة الحصول على أدلة قوية وموثقة لتوثيق وجودهم وحالات التضييق.

ثانياً، تجنيد حليف محلي: كنا بحاجة إلى عين على الأرض، شخص يثق به السكان ويعرف طبيعة المنطقة. كانت "أم وسام" هي الشخص المناسب. هي سيدة عجوز حكيمة، لم تغادر منزلها القريب من الملجأ رغم كل الدمار. تتمتع بحس عالٍ بالمسؤولية وبتاريخ طويل من المقاومة السلمية. ذهبت إليها مع مريم في صباح اليوم التالي، وتحدثنا معها عن وضع الجنود والخطر المتزايد على الملجأ.

أمن الأطفال هو أمننا جميعاً. قالت أم وسام بصوت حازم، وهي تدخن غليونها القديم. لا أستطيع الخروج والتحرك كثيراً لكبر سني، ولكن يمكنني أن أكون العين التي ترى والأذن التي تسمع. وسأجمع لكم معلومات دقيقة عن تحركاتهم وأعدادهم، ومن أي اتجاه يأتون، وسأعرف مَن مِن الشباب يمكن أن يساعدكم في تأمين مسارات الإمداد بعيداً عن أعينهم.

بهذه الاستراتيجية المزدوجة، شعرنا بارتياح خفيف. أصبح لدينا "نورا" كدرع إعلامي لتهديد الجنود من الخارج، وأم وسام كجهاز استخبارات محلي لضمان سلامة العمل من الداخل.

لم يمضِ وقت طويل حتى أثبت الجنود بقاءهم كتهديد حقيقي. في صباح اليوم التالي، كان من المقرر أن تصل شحنة إمدادات غذائية ضرورية للملجأ، خاصة الحليب والدواء للأطفال الصغار. لكنها لم تصل.

اتصل سائق الشاحنة بـمريم متأخراً بساعات، صوته يرتجف. أوقفونا عند نقطة التفتيش. الجنود احتجزوني وفتشوا الشاحنة ثم صادروا كل شيء بحجة أننا نخفي أسلحة تحت صناديق الدواء. لم يكن الأمر مجرد تضييق، بل كان عملية تجويع متعمدة. كان هذا هو الدليل القاطع الذي تحتاجه نورا لتنشر قصتها.

في المساء، وبينما كنا نخطط لكيفية سد هذا النقص المفاجئ، سُمع دوي اشتباك عنيف في الحي المجاور للملجأ. أصوات إطلاق النار كانت قريبة ومخيفة، كأنها تعزف لحن النهاية على أبوابنا.

في الأيام السابقة، كان صوت كهذا كافياً لإعادة الأطفال إلى حالة الهلع والانكماش. لكن هذه المرة، حدث شيء مختلف.

نظرتُ إلى الأطفال. كان الخوف يلمع في أعينهم للحظة، نعم، لكنه لم يتملكهم. لم يركضوا ليختبئوا تحت الأسرّة. بل التفتوا نحو بعضهم البعض. رأيت خالد، الذي كان بالأمس حبيس صمته، يمسك بيد حنين، ويشير لها إلى رسمها الأخير. كانا قد رسما جداراً عالياً حول بيتهما الملون.

الجنود هناك، لكن البيت هنا. قال خالد بهدوء غريب، وكأنه يشرح قانوناً جديداً للفيزياء. هم لا يستطيعون رؤية ألواننا.

لقد كانت مناعة اكتسبتها أرواحهم من خلال الفن المشترك والإحساس بالأمان المؤقت الذي زرعناه في الملجأ. كانوا يواجهون الخطر ليس بالهروب، بل باللجوء إلى الأمان الذي خلقوه بأيديهم. لم تعد الرسوم مجرد أشكال؛ بل تحولت إلى ملاذ نفسي وحصن روحي. هذا التفاعل العميق بين الخطر الخارجي وصمودهم الداخلي عزز إيماننا بأن عملنا هو بالضبط ما يحتاجه هؤلاء الصغار للصمود.

كانت الأدلة التي حصلت عليها نورا تفوق التوقعات. لم تكن بحاجة لجهد كبير؛ فالجنود، في غطرسة مفرطة وظنهم أنهم بمنأى عن المحاسبة، كانوا قد وثقوا جرائمهم بأنفسهم. فيديوهات هم المتبجحة التي يظهرون فيها وهم يدمرون البيوت ويعيثون خراباً، تحولت من دليل على قوتهم إلى حجة قاطعة لإدانتهم.

نورا، بكل حرفية ومهارة، نسقت الأدلة، ودمجتها مع شهادة سائق شاحنة الإمدادات التي صودرت، بالإضافة إلى المعلومات المحدودة والدقيقة التي قدمتها أم وسام حول مواقع تحركاتهم المعتادة. كانت معلومات أم وسام بمثابة الإطار الذي وضع الأدلة في سياقها الجغرافي والزمني الصحيح.

في غضون ساعات، اشتعلت المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي. القصة لم تعد مجرد خرق اتفاقية سلام، بل أصبحت إدانة موثقة بالصوت والصورة. الرأي العام العالمي تحرك، وتزايد الضغط على الجهات المسؤولة لاتخاذ إجراء فوري.

كانت النتيجة فورية ومدهشة: في فجر اليوم التالي، سمعنا أصوات محركات ثقيلة تتحرك. لكن هذه المرة، لم تكن أصوات قصف أو تهديد، بل كانت أصوات انسحاب. الجنود الذين صوروا أنفسهم وهم يدمرون، اضطروا للمغادرة تحت وطأة الفضيحة المدوية. نورا، بقلمها، حققت نصراً لم تنجح فيه البنادق.

بعد انسحاب الجنود، خيّم هدوء غريب على المنطقة. كانت العودة إلى العمل في ملجأ "الأمل الجديد" تتسم بالسكينة بعد العاصفة. لقد أثبت الفريق النسائي بقيادتكِ أن الصمود ليس فقط بالدفاع، بل بالتنظيم، والكشف، وبناء الأمل.

في ذلك اليوم، وبينما كانت الشمس تغرب وتلون الملجأ بألوان دافئة، رأيت خالد وحنين يجلسان معاً ينهيان لوحتهما المشتركة. لم يكن البيت مجرد لونين الآن، بل كان مغموراً بكل ألوان قوس قزح، وقد رسم خالد طريقاً مستقيماً واسعاً هذه المرة، مليئاً بالورود على الجانبين.

نظر إليّ خالد وابتسم. كانت ابتسامة خجولة، لكنها كانت ابتسامة حقيقية، هي الأولى التي أراها منه.

الشاحنة ستمر الآن. قال بصوت واضح، وهو يحرك لعبته على الطريق الملون.

أما حنين، فقد رسمت نفسها وهي تمسك بيدي، وكتبت بخط طفولي متعرج فوق الرسم: نحن نبني بقلوبنا.

أدركتُ أن "الجرح الغائر" لم يلتئم تماماً، فالذكريات لا تموت. لكننا نجحنا في زرع أولى بذور التعافي. لقد تحول الغضب في داخلي من طاقة حارقة إلى طاقة بناء صبورة وهادئة. أدركتُ أن هذا الصمود، وصمود هؤلاء الأطفال، هو الرد الحقيقي والأكثر فتكاً على كل متخاذل وكل من يحاول خنق الحياة.

كان هذا هو النصر الحقيقي: أن نزرع الأمل حيث حاولوا زرع اليأس، وأن نجعل الأطفال يرسمون طريقهم نحو النور، حتى لو اضطررنا للمشي على أشواك الواقع القاسي.

تابعونا لتصلكم الاخبار أولا بأول : 

بانيت بالتلغرام >> https://t.me/panetbanet

للإنضمام لأخبار بانيت عبر واتساب >> https://whatsapp.com/channel/0029VbArrqo9hXF3VSkbBg1A

للإنضمام لأخبار بانيت بالإنستغرام >>https://www.instagram.com/reel/DO8QWtMjFkR/?igsh=MXVvZzVhemN6bGNldA==

panet@panet.co.ilاستعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات لـ

إعلانات

إعلانات

اقرأ هذه الاخبار قد تهمك