حين يُغتصب الضمير: عن الصمت، والدين، والمسؤولية
" في عام 1988، في قلب مدينة شيكاغو، وقعت جريمة اغتصاب داخل محطة قطار. لم يكن المكان خالياً،بل كان مليئاً بالناس. عشرات الأعين شاهدت، لكن لم تتحرك يد واحدة.
المحامي شادي الصح
لم يتدخل أحد. مرّ الحدث كصفعة على وجه الإنسانية.
لم تُغتصب امرأة فقط تلك الليلة… بل اغتُصب الضمير الإنساني أيضاً.
هذه القصة ليست عن الجريمة، بل عن الصمت. عن أولئك الذين رأوا وسكتوا. عن الذين مرّوا كأن شيئاً لم يكن. لماذا لم يتدخل أحد؟ أكان الخوف؟ اللا مبالاة؟ أم أن فكرة “ليس من شأني” قد تحوّلت إلى عقيدة خفية في قلب المجتمعات الحديثة؟
هذا السؤال كان مدخلًا عميقاً للمستشرق البريطاني مايكل كوك، الذي اختار أن ينظر إلى هذه القصة وغيرها من خلال عدسة مبدأ عظيم في الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
دين يُعلّمك أن لا تسكت: في الإسلام، لا يُترك الإنسان ليعيش في فقاعته الخاصة. لا يُقال له: “أنت حر ما دمت لا تؤذي أحداً"بل يُقال له: “أنت مسؤول حتى عن سكوتك أمام الأذى”. ليس الصمت حياداً، بل شراكة في الخطيئة.
مايكل كوك، وهو من المدرسة الاستشراقية الأكاديمية، لم يقترب من هذا المبدأ بروح المستشرقين الكلاسيكيين الذين يبحثون عن ثغرات، بل أراد أن يفهم كيف يمكن لدين أن يربط الإيمان بفعل الخير لا بالعبادة فقط. وجد أن الإسلام، في كل مذاهبه، يعطي الفرد صلاحية – بل مسؤولية – التدخل عندما يرى ظلمًا.
وهنا يكمن الفرق الجوهري. في بعض المجتمعات الحديثة، المسؤولية تُلقى على الدولة. القانون هو من يتحرك، أما الفرد، فمطلوب منه فقط أن لا يتدخل. أما في الإسلام، فالفرد لا ينتظر الدولة. هو الدولة الأخلاقية في لحظة الحاجة. هو صوت الضمير، ويد العدل، إن سكت الجميع.
الصمت جريمة لا يعاقب عليها القانون، لكن يحاسب عليها الدين
عندما تمر جريمة أمامك وأنت قادر على منعها، ولا تفعل، فأنت – في المنظور الإسلامي – مشارك فيها. ربما لا تأخذ حكم الفاعل، لكنك لست بريئًا بالكامل.
والسؤال المؤلم هو: أولئك الذين وقفوا في محطة القطار، ولم ينطقوا، هل كانوا أحراراً ؟أم كانوا عبيداً لمنظومة أخلاقية ناقصة، لم تعلمهم كيف يكون الإنسان إنسانًا أمام الخوف؟
منظومة بلا إيمان… هل تكفي؟
يرى كوك أن كل منظومة أخلاقية تحتاج إلى جذور. القانون وحده لا يصنع الفضيلة. المجتمع الذي لا يؤمن بأن هناك قيمة أسمى من المصلحة، لن ينتج أفراداً يقاتلون من أجل الحق. لن ينقذ امرأة تُغتصب أمامهم، لأن لا شيء في داخلهم يقول لهم بوضوح: “تدخَّل، هذا واجبك”.
أما الإسلام، فيربط بين الإيمان والمسؤولية. لا يمكنك أن تكون مؤمناً وتبقى ساكناً أمام الظلم. هذه ليست مسألة طيبة قلب، بل عقيدة.
من نحن حين نصمت؟
هذا المقال ليس عن حادثة، بل عن نحن. عنّي وعنك. عن قدرتنا على أن نغض الطرف ونقول “ما شفت شيء”، وعن لحظات كان يمكن فيها أن نغيّر شيئاً، ولم نفعل.
حين ينكسر إنسان أمام عينيك، وتصمت، فأنت أيضاً انكسرت، لكنك فقط لا تشعر.
تعلمنا الأديان – ومنها الإسلام – أن الإنسان ليس فقط ما يفعله، بل ما يمتنع عن فعله. وأن الكلمة، حين تُقال في وجه الظلم، قد تُنقذ حياة، وقد تُعيد المعنى لما نسميه “الكرامة”.
مايكل كوك لم يُسلم، لكنه فهم شيئاً عميقاً في الدين الذي نحمله أحياناً دون وعي. فهم أن في تراثنا أمراً يستحق أن نحفظه، لا من أجل الماضي، بل من أجل اللحظة التي قد نُختبر فيها نحن… تماماً كما اختُبر أولئك في شيكاغو.
من هنا وهناك
-
نتنياهو واستراتيجية ‘بناء الفشل‘ - بقلم: المحامي علي حيدر
-
‘توني بلير ... وقصتنا مع هذا الرجل‘ - بقلم : تيسير خالد
-
مقال: العلاقة بين بيان القمّة العربيّة الإسلاميّة وقرارات القيادة الإسرائيليّة - بقلم : المحامي زكي كمال
-
‘ جدل حول الاعتراف بدولة فلسطين ‘ - بقلم : أسامة خليفة
-
فيصل درّاج وذاكرة لا تمحى.. قراءة في كتاب ‘كأن تكون فلسطينيّا‘ - بقلم: صباح بشير
-
‘أبناؤنا الموهوبين بين التحدي والدعم: كيف نرافقهم نحو النجاح والسعادة ؟‘ - بقلم : رائد برهوم
-
‘ الموناليزا في باب المعظم ‘ -
-
‘ الفنون .. جسر الإنسانية الحي ‘ - بقلم: الفنان سليم السعدي
-
‘ الاعتراف الدولي بفلسطين والرد الاسرائيلي ‘ - بقلم : د . حسين الديك
-
‘غياب القائمة المشتركة بين الأحزاب العربية: قراءة في الواقع المجتمعي‘ - بقلم: منير قبطي
أرسل خبرا