logo

‘إمزورن … حين تستيقظ الذاكرة في حضن الريف‘ - بقلم: عبدالحق الريكي

موقع بانيت وقناة هلا
06-10-2025 11:38:55 اخر تحديث: 10-10-2025 05:03:30

حين تطأ قدماي أرض إمزورن، أشعر أنني لا أزور مدينة صغيرة فحسب، بل أفتح صفحة من كتاب الذاكرة الريفية، كتاب كُتب بالعرق والدم والحنين.

shutterstock - PeopleImages

في الصباح، وأنا أتجول في ساحة البلدة وأسواقها، يتراءى لي أن الخبز الساخن والزيتون الأسود والجبن الريفي ليسوا مجرد طعام، بل هم بقايا ذاكرة، بقايا أمهات يعجنّ ويخبز في بيوت الطين والحجر، وأطفال يركضون حول الموائد حاملين ابتسامات بريئة.

وعند الظهيرة، أجد نفسي أمام طاجين بطيء النار، أو سمك طازج قادم من بحر الحسيمة. ذلك البحر، الذي لم يكن يومًا مجرد ماء، بل فضاء للحرية، شاهِد على المعارك، ورفيق للمهاجرين والمنفيين، وراوٍ لحكايات لا تنتهي.

في المساء، أقصد بوعلمة، حيث الجبال والأشجار تحفظ أسرار أجداد جلسوا تحتها يومًا، تحدثوا عن الأرض والحرية، وربما بكوا في صمت. هناك، أفهم أن الطبيعة في الريف ليست مجرد منظر جميل، بل ذاكرة حيّة لا تندثر.

ومع غروب الشمس، أعود إلى مقهى شعبي في قلب إمزورن. أستمع إلى كلمات ريفية ـ أمازيغية تتناثر بين الكراسي الصغيرة وأكواب الشاي بالنعناع. لغة فيها موسيقى خاصة، فيها وجع وحنين، كأنها صدى الماضي يتردد في الحاضر.

 في اليوم التالي، يأخذني البحر إلى شاطئ السواني. أجلس أمام الموج وأفكر: كم من بحّار عبر هذا الأفق نحو المجهول؟ كم من مهاجر حمل الحلم والجرح معًا؟ الموج هنا ليس مجرد حركة طبيعية، بل هو لسان ذاكرة يتحدث بلغة الذين مضوا.

 ومن هناك، أسلك الطريق نحو تماسينت، البلدة المجاهِدة التي صنعت لنفسها مكانًا خاصًا في سجل المقاومة. كل بيت فيها يروي حكاية صمود، وكل زقاق يختزن همسات رجال ونساء حملوا الريف في قلوبهم ودفعوا ثمن ذلك غاليًا. في تماسينت، تشعر أن الجدران نفسها تتنفس التاريخ، وأن الصمت هناك ليس هدوءًا، بل ذاكرة ناطقة.

ثم أتابع طريقي نحو آيث بوعياش، أرض الزيتون والكروم، حيث كل غصن يحمل قصة فلاّح، وكل حجر يحفظ أثر خطوات من مرّوا ذات يوم حاملين الحلم والألم.

ولا يمكن الحديث عن الريف دون استحضار أجدير، مسقط رأس المقاوم الكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي، رمز الكرامة والحرية الذي ألهم أجيالاً من أبناء الريف والمغرب. كما لا يمكن أن ننسى أجدير، البلدة الجبلية التي دفعت ثمناً غالياً وبقيت جرحاً في جسد الذاكرة الريفية.

من أجدير إلى تماسينت، من الحسيمة إلى الرباط، نفس النفس المقاوم يعبر الأزمنة، يوحّد الأجيال، ويؤكد أن ذاكرة الريف هي قبل كل شيء ذاكرة مقاومة… ذاكرة لا تُمحى.

وإن امتدت الرحلة نحو الحسيمة، فإن الميناء والكورنيش شاطئ كيمادو ليسوا مجرد أماكن للنزهة، بل محطات في سجلّ الذاكرة الجماعية. هناك، يختلط جمال البحر بصدى الاحتجاجات، بصوت الشباب الذين صرخوا يومًا، وبالأمل الذي لا يزال حيًا رغم الجراح.

وعلى مرتفع كيمادو، حيث البحر أمامي والجبال خلفي، أكتشف أن الذاكرة ليست ماضيًا يُستحضر، بل هي حاضر يسكن المكان، يُذكّرنا أن الريف لا ينسى… وأن زيارتي لإمزورن لم تكن مجرد رحلة، بل كانت موعدًا مع الذاكرة نفسها.